الخميس، 6 نوفمبر 2014

وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا



بسم الله الرحمن الرحيم
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)(ال عمران)
قبل ان ندخل في البحث لابد ان نشير الى حقيقتين لايمكن انكارهما والتشكيك فيهما وهما :
الاولى : التخلف العلمي والاقتصادي والسياسي للعالم الاسلامي وهذه بديهة لاتنكر! وطبعا لهذا التخلف اسبابه وجذوره لان الموروث التاريخي هو المؤثر الاكبر في شخصية الامة وخصوصا عصر الامويين والعباسيين والعثمانيين حيث السرف والترف وسوء التوزيع اضف لذلك سلبيات الجبر الالهي والحتمية التي اشاعها حكام بني امية ومن حذا حذوهم فكل مايصيب الانسان من ظلم واجحاف وتمييز من الحاكم عليه ان يسكت لانه من قضاء الله وقدره والاعتراض على قضاء الله كفر يستحق القتل !
الثانية : ان الجبهتين الشرقية والغربية (الشيوعية والراسمالية) لم يحققا للانسان مايصبوا اليه واقول الانسان كل الانسان ولانعني جنسا دون اخر وقد فشل القطبان العلمانيان في تحقيق السعادة الانساانية والنموذج الحضاري الغربي معرض للسقوط بل هو في طريقه ليلتحق بالنموذج الشرقي والتشكيك في هذه الحقيقة كالتشكيك في الاولى!
والواقع.........
يعيش المسلم المعاصر اليوم في ازمة شديدة بين التراث والمعاصرة يصور اهل الحداثة الامر هكذا وان لاسبيل للمسلم الا ان يختار احد الخيارين :
الاول : ان يختار المعاصرة على التراث وبالتالي التخلي عن الذات لان الامم انما تتمايز بموروثها التاريخي !
وهو اختيار سهل لكن تنقصه الحكمة فليس النموذج الغربي النموذج الصالح كما انه قبل خمسة عقود ان كان يتالق فليس الامر كذلك بيومنا هذا!

الثاني : ان يختار التراث على المعاصرة وهو بمعنى التحجر وايقاف عجلة التقدم !
وهكذا فالامة اليوم بين مطرقة المعاصرة وسندان التراث يتخبط سلوكها ويمتزج فعالها فلاهي من اهل التراث ولا هي من اهل المعاصرة !!
وبين ذين وذين ظهرت الحلول التلفيقية وهي كالتالي :
الخيار الاول : ياخذ به طائفة من الكتاب المعاصرين وتفصيله ان ناخذ الاشكال والصيغ من التراث والمضمون من المعاصرة (الكيس من التراث والطحين من الغرب) !!!!
فنأخذ مثلا من الشريعة الولاء والبراء ونترك للمسلم حرية من يتولاه او يتبراه دون قيد او شرط وناخذ من الشريعة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وناخذ من الغرب المعروف والمنكر ولربما معروفهم منكرنا او العكس !
ناخذ من الشريعة عقوبة الجريمة ونترك نوع العقوبة يحددها قانون حقوق الانسان!
ولدينا كلمتان لكتاب هذه الالعوبه :
1- نعتقد ان من يريد الانتقال من التراث الى المعاصرة سيجد فراغا ولايمكن الانتقال بهذه الطريقة لذا حاول هؤلاء ان يملوا الفراغ وبالتالي فان الرجوع الى الشريعة او التراث من هؤلاء بمثابة العلاجات النفسية وليس لعلاج الامة !
واما اذا كان ايمانا منهم بتعاليم الشريعة فان الاسلام كل لايتجزء وقد اكملت الشريعة تشخيص الصيغ والاشكال والمضمون جميعا كما في سورة المائدة (3) (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)
ولم يترك خيارا للتبعيض كما في سورة ال عمران (154) (يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ)
اضف لذلك الاية
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)(ال عمران)
وكذلك في سورة ال عمران (19) (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ)
بصراحة .....
من الخير لهؤلاء الكتاب ان يصارحوا الناس بما يريدون ويعلنوا صراحة تحررهم عن تعاليم الشريعة كما اعلنها الكثيرون !
والصحيح ان من يدعون للعلمانية صراحة لهم اشجع واصدق من هؤلاء في تبيين مشاريعهم الفكرية !
2- ان الحلول التلفيقية فاشلة دائما فاما الاشكال والمضامين من سنخ الشريعة او من سنخ المعاصرة .
اما التلفيق بين الصيغ والمضامين من ثقافتين مختلفتين لايحقق ماتطلبه الشريع ولا ماتصبوا اليه العلمانية !!!
 :  الخيار الثاني
ان ناخذ الشكل والمضمون من الشريعة وهنا لانفصد بالشريعة بالمفهوم الغائم الذي يطرحه الكتاب المحدثون باسم (التراث) و (القديم) وانما نقصد بها هدى الوحي المتجذر في تاريخ الامة المؤثر بالتاريخ والتراث لا المتاثر بها .
---------------------------------
سوء التوجيه لطائفة من المفاهيم الاسلامية
يبقى ان نشير الى التوجيه السلبي لطائفة من المفاهيم الاسلامية ومنها مثلا الزهد فهو من صلب المفاهيم الاسلامية بلا ريب ويرى البعض ان المضمون الثقافي والحضاري لقيمة ما كالزهد اذا كان يصلح لمرحلة تاريخية فلايصلح للمرحلة الحاضرة والتمسك بها يؤدي الى تخلف المسلمين ولابد من تبديل هذه القيمة الى قيمة معاصرة وهي الاقبال على الدنيا والكدح والخ!
ان هذه الاثارات نابعة من الخطا في توجيه وفهم المفاهيم الاسلامية والا من قال بان الزهد يتعارض والكدح والعمل !
والقران يقول في سورة القصص (77) (وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) وقال في سورة الجمعة (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10))
والجدير ذكره ان معنى الزهد هو التحرر من الدنيا فقد يكدح الانسان لكسب الدنيا واعمارها دون ان ينشغل بها .
ان الاسلام لا يرفض الدنيا ولكنه يمقت عبادتها !
فقد ذم امير المؤمنين رجلا يذم الدنيا وقال :
(أَيُّهَا اَلذَّامُّ لِلدُّنْيَا اَلْمُغْتَرُّ بِغُرُورِهَا اَلْمُنْخَدِعُ اَلْمَخْدُوعُ بِأَبَاطِيلِهَا أَ تَفْتَتِنُ تَغْتَرُّ بِهَا ثُمَّ تَذُمُّهَا أَنْتَ اَلْمُتَجَرِّمُ عَلَيْهَا أَمْ هِيَ اَلْمُتَجَرِّمَةُ عَلَيْكَ مَتَى اِسْتَهْوَتْكَ أَمْ مَتَى غَرَّتْكَ أَ بِمَصَارِعِ آبَائِكَ مِنَ اَلْبِلَى أَمْ بِمَضَاجِعِ أُمَّهَاتِكَ تَحْتَ اَلثَّرَى كَمْ عَلَّلْتَ بِكَفَّيْكَ وَ كَمْ مَرَّضْتَ بِيَدَيْكَ تَبْتَغِي لَهُمُ اَلشِّفَاءَ وَ تَسْتَوْصِفُ لَهُمُ اَلْأَطِبَّاءَ غَدَاةَ لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ دَوَاؤُكَ وَ لاَ يُجْدِي عَلَيْهِمْ بُكَاؤُكَ لَمْ يَنْفَعْ أَحَدَهُمْ إِشْفَاقُكَ وَ لَمْ تُسْعَفْ فِيهِ بِطَلِبَتِكَ وَ لَمْ تَدْفَعْ عَنْهُ بِقُوَّتِكَ وَ قَدْ مَثَّلَتْ لَكَ بِهِ اَلدُّنْيَا نَفْسَكَ وَ بِمَصْرَعِهِ مَصْرَعَكَ إِنَّ اَلدُّنْيَا دَارُ صِدْقٍ لِمَنْ صَدَقَهَا وَ دَارُ عَافِيَةٍ لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا وَ دَارُ غِنًى لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا وَ دَارُ مَوْعِظَةٍ لِمَنِ اِتَّعَظَ بِهَا مَسْجِدُ أَحِبَّاءِ اَللَّهِ وَ مُصَلَّى مَلاَئِكَةِ اَللَّهِ وَ مَهْبِطُ وَحْيِ اَللَّهِ وَ مَتْجَرُ أَوْلِيَاءِ اَللَّهِ اِكْتَسَبُوا فِيهَا اَلرَّحْمَةَ وَ رَبِحُوا فِيهَا اَلْجَنَّةَ فَمَنْ ذَا يَذُمُّهَا وَ قَدْ آذَنَتْ بِبَيْنِهَا وَ نَادَتْ بِفِرَاقِهَا وَ نَعَتْ نَفْسَهَا وَ أَهْلَهَا فَمَثَّلَتْ لَهُمْ بِبَلاَئِهَا اَلْبَلاَءَ وَ شَوَّقَتْهُمْ بِسُرُورِهَا إِلَى اَلسُّرُورِ رَاحَتْ بِعَافِيَةٍ وَ اِبْتَكَرَتْ بِفَجِيعَةٍ تَرْغِيباً وَ تَرْهِيباً وَ تَخْوِيفاً وَ تَحْذِيراً)
--------------------------
كيف يكافيء المحدود اللامحدود ؟؟!!
شبهة يثيرها المحدثون وهي كيف يمكن تغطية المساحة غير المحدودة من شؤون الانسان بالنصوص الشرعية المحدودة ؟
فان الزمان في تمدد والنصوص ثابتة ؟
والجواب
اولا :ان طائفة من التصوص تشكل قواعد فقهيه تتمدد مع الزمان والمكان فالوفاء بالعقود والوفاء بالكيل وحرمة الربا الخ قواعد لاعلاقة لها بزمان او مكان !
ثانيا : فتحت الشريعة بابا واسعا وذلك باعطاء صلاحيات الى الحاكم الشرعي فيحق له ان يلزم الناس مستحبا او يحرم مباحا بمقتضى المصلحة .
ثالثا : مكنت الشريعة الفقيه من استخدام العناوين الثانوية في الفقه لتغيير الحكم الشرعي حسب ضوابط الشريعة فالغسل والوضوء عند الضرر ينقلبان الى تيمم وبالغبن في المعاملة يرفع الالزام العقدي والحرج في امتثال الحكم الشرعي يرفع الوجوب .
اذن فقه يملك هذه الدرجة العاليه من الكفاءة والمرونة لن يواجه ازمة زمانية او مكانية .   

اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.. إن هذه الآيات من سورة الحشر، يُقال بأنها من أبلغ الآيات المُشيرة إلى مسألة مراقبة النفس.. وينبغي أن نخرج بدرس عملي، وقرار صارم من هذه الآية، في كيفية التعامل مع النفس.
 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ}.. إن القرآن الكريم مليء بالأمر بالتقوى، وليست التقوى إلا الكفَّ عما لا يُرضي الله عز وجل: عملاً بالواجب، وإنتهاءً عن المحرم.
{وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}.. يا لها من روعة!.. إن الأمر بالتقوى خطاب للمسلمين وللمؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ}.. ولكن عندما يصل الأمر إلى المحاسبة، فإننا نلاحظ تغيير في لحن الآية: {وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}.. ففي صدر الآية هناك خطاب وهو: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ}، ولكن {وَلْتَنظُرْ}.. فإنه كلام مع الغائب، وليس هناك مواجهة في الخطاب.. يقول البعض -ونعم ما يقول!..- بأن هذه الآية لاتخلوا من عتاب، ومن تقريع مبطن.. وكأن الله عزّ وجل يُريد أن يقول: أُخاطب مَن؟!.. فالأمر بالتقوى يمكن أن أخاطب به المؤمنين، لكن مراقبة النفس أمرٌ صعب، فهو أمرٌ لا يلتفت إليه الخلق.. {وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ} فيه تنكير، وكأن هذه النفوس التي تنظر إلى ما قدمت لغد، نفوس في غاية القلة وفي غاية الندرة.. وبالتالي، فكأن الله عز وجل لا يجد من يخاطبهم في الأمر بمحاسبة النفس.. ويا له من تقريع، ومن تعظيم لأمر محاسبة النفس!.. ولهذا فإن الله عز وجل، يبدو من خلال هذه الآية، أنه يشير إشارة خفية إلى أن الممتثلين لهذا الأمر الإلهي قليلون جدا.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ}.. مرة أخرى الأمر بالتقوى.. وكأن لب التقوى وثمرتها، هي عبارة عن محاسبة ومراقبة النفس.. فمن دون الاهتمام البليغ بمحاسبة النفس ومراقبتها، كأن هذه التقوى لا تتم.. فكيف للإنسان أن يتقي غضب الله عز وجل وهو لا ينظر إليه، ولا يهتم بمراقبته لعبده؟.. فيعصيه العبد، وقد جعله أهون الناظرين إليه.. وعليه، فصحيح أن التقوى هي تكليف الجميع، ولكن هذه التقوى لا تتكامل ولا تعطي ثمارها المرجوة، يقول الكاظم (ع) كما في الرواية: (ليس منا مَن لم يحاسب نفسه في كلّ يوم).. والتعبير فيه شعار لطرد عن دائرة المعصوم، ومَن مع المعصوم من من الأولياء والمؤمنين.
ثم تقول الآية: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، إن نسيان الله عز وجل قد يجتمع مع الطاعة.. يقال: بأن نسيان الشيء، هو عبارة عن ذهاب صورة الشيء من الذهن.. أي إذا غابت صورة الشيء عن بالك، فإن ذلك الشيء منسي، وأنت ناسي لذلك الأمر.. ولهذا فإن الإنسان قد يعمل في شركة لسنوات طويلة، أو في دائرة، وغير ذلك، ويؤدي واجبه اليومي.. وينسى صاحب العمل وينسى الوزير والأمير.. فهو يعمل بشكل تلقائي، ولكن لا يذكر الآمر.. وهكذا فإن البعض قد يطيع رب العالمين، ويتعود على الصلاة.. فبعض الروايات تقول –ما مضمونه-: (لو ترك الصلاة لاستوحش من ذلك).. فهو وجود تلقائي يعبد الله عزّ وجلّ، ولكنه لا يعيش حالة الذكر الدائم ولا المتقطع.. فإذن، إن نسيان الله عز وجل يكون تارة بعدم الاعتراف به والتحدي؛ وهو الكفر.. وتارة يكون في مقام العمل، ومن منا يذكر هذه الصورة العُظمى في الوجود؟.. هذا الوجود الحقيقي الذي لا يساويه وجود!.. فكل وجود رشحة من رشحات فيضه!.. مَن منا يذكر الله عز وجل؟..
والقرآن الكريم يهدد ويقول: لا بأس لا تذكروني، أنا أيضاً لا أذكركم.. وأمحوكم عن ديواني، {فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ}.. أي أنت لا وزن لك عندي، ولا وجود.. إن الله عزّ وجلّ يُعامل بني آدم على أنه شيء في الوجود، لا على أنه عبدٌ له صلة بالله عز وجل.. فينظر إليه على أنه قطعة من الأرض، كالجبل الأشم الذي لا عقل له.. وهكذا يتحول الإنسان إلى موجودٍ، لا شعور ولا روح له في الوجود.. وإذا نسي الله عبدا أنساه نفسه.. أي أن نسيان الله عزّ وجلّ، سوف يدعوه إلى نسيان نفسه بترك المراقبة.. فالإنسان الذي لا يراقب نفسه، قد نسي نفسه.. ولهذا فإن الإنسان المصلي الذي يصلي بقلب غافل، فهو إنسان نسي نفسه.. ويوم القيامة قد يصبح هناك جدال، وهذا الجدال قد يكون بين النفس والجوارح.. فكما أن الجوارح يوم القيامة تتحدى بني آدم، وتشهد عليه.. {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ}.. فيُحتمل وجود جدال آخر ومنازعة أخرى، تقول الجوارح: يا نفس!.. أنا كجوارح، وأنا كلحم وعظم ودم، ركعت وسجدت لله عزّ وجلّ.. وأنتِ يا نفسي مابالكِ كُنتِ من الغافلين!.. فأنا كلحم وعظم لا شعور له ولا عقل له، خضعت بين يدي الله، وكنت ساهياً تذهب يمينا وشمالاً.. وقد تفكر بالحرام وأنت قائماً بالصلاة.. ما هذا الغبن الفاحش!.. فكما أن الجلود تشهد على الإنسان يوم القيامة، فمن الممكن أن تقوم بهذا العتاب البليغ أيضاً.
{أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.. إن هذه الآية لا تقول: أولئك هم الخاسرون. فالذي نسي الله عز وجل نحن في عرفنا أنه إنسان غافل، فقد نسي الله عزّ وجلّ كباقي أهل الأرض.. ولكن القرآن الكريم يقول: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.. فنسيان الله عز وجل: إما هو فسقٌ خفي، أو مقدمة لفسق جليّ.
{لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}.. إن هذه الآية فيها أيضا عتابات مبطنة.. إنها تقول: يا بني آدم!.. لقد أنزلنا عليك القرآن، وكلفناك بالقرآن الكريم، وأمرناك بتلاوته، وجعلناك أهلاً لتحمل معانيه.. فالوجود البشري بعقله وبقلبه، يستوعب القرآن إجمالاً، أنزلنا عليك القرآن.. فقد أنزله على النبي كمتلقٍ وكمرسل، وأنزله على قلب كل تالٍ للقرآن الكريم.. {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}.. ونحن ماذا نعمل أمام القرآن الكريم، إننا لا نعيش أدنى درجات الخشوع، الذي يخشعه الجبل لو أنزل الله القرآن عليه.. {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}.
ثم يبدأ بختام بسورة الحشر، وهذه الآيات من الآيات البليغة في القرآن، آيات ربوبية وملكية : {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ، هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.. فحسب الظاهر أن هذه أسماء الله الحسنى.. ولكن هناك ترابط بليغ مع آيات المراقبة، فقد بدأت الآية بذكر الله عزّ وجلّ، وهو ان لا ننسى الله عز وجل، {وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}.. لماذا؟.. لأنك ستلاقي هكذا رب، فعندما يدعوك القرآن لعدم نسيان الرب، الرب الذي له هذه الصفات الحسنى.. فإذن، إن القضية منطقية جداً.. أي بما أني ما دمت ارجع لهكذا رب: مهيمن، ومصور، وقدير، وجبار.. فهو أهل لأن يُراقَب، وأهل لأن يُذكر.. فكأن ختام هذه الآيات تشجيع للعبد على أن يلتزم بالمراقبة الدقيقة المستوعبة لكل آن من آنات الحياة.
ولهذا فإن التدبر في القرآن الكريم، هو مفتاح التكامل.. فهذه الآيات مفتاح الفلاح، لأنها تؤكد على عنصر جوهري، وهو مسألة المراقبة، والمراقبة متوقفة على معرفة المراقَب، وصفات جلاله وكماله.. فإذن، علينا التدبر في هذه الآيات، واتخاذها ورداً  في اليوم، لأن هذه الآيات من الآيات التي يستحسن قراءتها دائماً.. من قوله تعالى: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}.. لتكون عنصر ردعٍ وتذكير للمؤمن، كلما أراد أن ينسى ربه.